تحذيرات متصاعدة في إسرائيل- هل "طوفان الأقصى" يؤجل الحرب الأهلية؟

المؤلف: د. عمار علي حسن08.07.2025
تحذيرات متصاعدة في إسرائيل- هل "طوفان الأقصى" يؤجل الحرب الأهلية؟

قبل اندلاع عملية "طوفان الأقصى" المدوية، كانت التحذيرات تتعالى في إسرائيل بشأن خطر نشوب حرب أهلية طاحنة، وذلك نتيجة للسياسات التي يتبناها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ترتفع فيها أصوات مماثلة في أوقات ومناسبات مختلفة داخل إسرائيل. لقد نجت إسرائيل في بداية تكوينها من حرب أهلية كانت وشيكة، وكان من الممكن أن تشتعل لو شرعت الدولة في وضع دستور، فقد أدرك المؤسسون الأوائل أن ذلك سيؤجج جدلاً محتدماً بين العلمانيين والمتدينين، وهو ما كان قد يتصاعد إلى صدام عنيف يقوض المشروع الصهيوني في مهده.

في الواقع، يعج المجتمع الإسرائيلي على الدوام بأسباب الصراع المتعددة. هناك خلافات راسخة ومتجذرة بين المتدينين والعلمانيين حول قضايا شائكة تتعلق بجوانب مختلفة من الحياة، مثل: حرمة يوم السبت، وأنواع الأطعمة والذبائح المباحة، ومكانة المرأة في المجتمع، وقضية الزواج المختلط، ومناهج التعليم، والخدمة العسكرية الإلزامية، والتوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة. ومع مرور الوقت، أضيفت إلى هذه القضايا ملفات أخرى معقدة، مثل: قانون تشريح الجثث وزراعة الأعضاء، وقانون حقوق الإنسان، وتجنيد الفتيات المتدينات في الجيش، والتسوية السياسية مع الفلسطينيين.

إن هذه الصراعات تتراوح بين الحدة المكتومة والتوترات الظاهرة، حتى إن بعض الإسرائيليين يرون فيها أسباباً كامنة لاندلاع شرارة حرب أهلية في أي لحظة غير متوقعة.

يذكر الدبلوماسي المصري رفعت الأنصاري في مذكراته عن فترة عمله في إسرائيل أن بعض أفراد اليمين الديني المتطرف قد عقدوا العزم على تنظيم مظاهرة حاشدة أمام مبنى السفارة المصرية في تل أبيب بعد أسابيع قليلة من اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، وذلك احتجاجاً على اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. حينها، سمع الأنصاري من السفير محمد بسيوني، أول سفير لمصر في تل أبيب، عبارة لافتة قال فيها: "إذا ما اندلعت حرب أهلية في إسرائيل، فسيكون مائير كهانا، زعيم حركة كاخ، هو المحرك الرئيسي وراء ذلك". لم يكن هذا الحكم وليد الصدفة، بل كان يستند إلى تقييم دقيق لمعطيات واقعية واضحة للعيان.

وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن هذا التقدير لم يكن ضرباً من الخيال، بل كان نابعاً من إدراك عميق لرفض اليهود المتدينين التخلي عن حلم "إسرائيل الكبرى"، ولذلك، فإنهم يرون دائماً أن أي تسوية سلمية تفضي إلى إعادة الأراضي المحتلة إلى أصحابها العرب يجب رفضها بشكل قاطع وفوري.

لهذا السبب، شهدنا ظهور حركات متطرفة مثل "جوش أمونيوم" و"كاخ"، اللتين تحالفتا مع مناحيم بيغن وإسحاق شامير، زعيمي حزب الليكود، وهددتا بإشعال حرب أهلية شاملة إذا انسحبت إسرائيل انسحاباً كاملاً من الأراضي العربية المحتلة، وفقاً لمبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي تم الترويج له في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.

تجدد هذا السيناريو المقلق مع الانسحابات الأحادية الجانب التي قامت بها إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 وقطاع غزة عام 2004. في ذلك الوقت، تحدث البعض عن احتمال قيام الجيش الإسرائيلي، الذي شهد تصاعداً ملحوظاً في عدد الضباط المتدينين المتشددين، بانقلاب عسكري على الحكومة، بدعوى أنها تخلت عن مشروع "إسرائيل الكبرى".

ينقل الباحث الإسرائيلي تسفكيه عميت في كتابه القيم "انقلاب عسكري في إسرائيل.. الاحتمالات والواقع" عن أحد الأكاديميين الإسرائيليين المنتمين إلى اليمين قوله: "لقد كانت هناك مخاطر حقيقية لاحتمال نشوب حرب أهلية مدمرة في إسرائيل. التطرف المتزايد لدى الجانبين، وغياب الصبر، والعداء المستحكم بينهما، دفعت بإسرائيل إلى الجلوس فوق برميل من البارود، يمكن لأي شرارة طائشة أن تفجره وتحوله إلى رماد متناثر في الهواء. وأنا أعتقد أننا يجب أن نتقدم بالشكر الجزيل لأولئك الذين أحدثوا الانقلاب".

من زاوية مختلفة، توقع بعض الإسرائيليين أن يطلق فلسطينييو الداخل، أو عرب الـ48، شرارة هذه الحرب الأهلية. رحبعام زئيفي، رئيس حركة مولديت، الذي اغتيل خلال انتفاضة الأقصى عام 2000، كان يعتقد أن تنامي قوة الحركة الإسلامية في إسرائيل سيؤدي في نهاية المطاف إلى اندلاع حرب أهلية شاملة.

ازداد هذا الاعتقاد ترسيخاً خلال فترة التمرد الواسع الذي قام به فلسطينييو الداخل عام 2021، بالتزامن مع اندلاع عملية "سيف القدس". ما حدث في ذلك الوقت اعتبر بمثابة حرب أهلية مصغرة، حيث فقدت الشرطة وقوات حرس الحدود السيطرة على بعض المدن، وعلى رأسها مدينة اللد، واضطرت إلى إجلاء بعض العائلات اليهودية منها حفاظاً على سلامتها.

قبل عملية "طوفان الأقصى"، كانت إسرائيل على شفا "حرب أهلية" حقيقية، وهو ما أكده أستاذ العلوم السياسية في جامعة "بار إيلان" مناحم كلاين، الذي اعتبر أن الاحتجاجات العارمة التي شهدتها البلاد ضد مساعي نتنياهو لإجراء تعديلات قضائية ترسخ الدكتاتورية تمثل المراحل الأولى لحرب أهلية وشيكة.

هذه المسألة أكدها أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت في تعليقه على إقرار الكنيست لمشروع قانون "الحد من المعقولية" المثير للجدل، واصفاً القانون الجديد بأنه يمثل تهديداً خطيراً لأمن إسرائيل واستقرارها.

بناءً على هذه المعطيات الخطيرة، لم يكن من المستغرب أن يحذر تقرير صادر عن موقع "كاونتر باتش" الأميركي من مخاطر اندلاع حرب أهلية في إسرائيل في أعقاب استقالة عدد من القادة البارزين، مثل بيني غانتس وغادي آيزنكوت، حيث كشف هذا عن انقسامات عميقة ومتجذرة، تختلف جوهرياً عن الاستقطابات العادية التي تشهدها الديمقراطيات الغربية، ليس فقط لأن إسرائيل ليست دولة ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن أيضاً لأن تركيبتها السياسية فريدة من نوعها، لا سيما في ظل سعي نتنياهو وحلفائه الحثيث إلى إعادة تشكيل الطبيعة السياسية لإسرائيل، بما يتناقض مع ما تأسست عليه منذ قيامها عام 1948.

نتنياهو سعى جاهداً لتغيير العلاقة بين السلطة السياسية والجيش، متجاوزاً القاعدة التقليدية الراسخة التي تعتبر أن الجيش هو جوهر النظام السياسي، حين صرح قائلاً: "إسرائيل دولة لها جيش، وليست جيشاً له دولة". في المقابل، تكشف الحقائق التاريخية والواقعية أن إسرائيل تأسست واستمرت بفضل الحروب المتواصلة، وأن الجيش يحظى بمكانة خاصة ومتميزة في المجتمع، سواء من خلال تمتعه بامتيازات كبيرة عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار السياسي، أو من خلال تولي كبار قادة الجيش مناصب سياسية رفيعة.

ثم جاءت عملية "طوفان الأقصى" لتحدث تحولاً جذرياً وهائلاً في المشهد السياسي الإسرائيلي، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست"، حيث اهتزت ثقة إسرائيل بنفسها وبقادتها السياسيين والعسكريين، وتراجع إحساسها بالأمن والاستقرار، وبات من المرجح أن يشهد المشهد السياسي زلزالاً عنيفاً بعد انتهاء الحرب.

في الثالث عشر من أغسطس/ آب 2024، عاد الحديث عن شبح الحرب الأهلية ليطل برأسه من جديد، حين حذر رئيس حزب "معسكر الدولة" بيني غانتس من اندلاعها، قائلاً: "إذا لم نعد إلى رشدنا، فستندلع هنا حرب أهلية مدمرة، ويجب ألا ندفن رؤوسنا في الرمال ونتجاهل الحقيقة المرة. هناك قيادة متطرفة تنفر الناس، وتسمم البئر التي نعيش منها. الحرب الأهلية تشتعل عندما تهدر كرامة العائلات الثكلى وأهالي المختطفين على أيدي قوات الشرطة خلال المظاهرات، وعندما يصنف الموظفون الحكوميون المخلصون على أنهم خونة".

كان غانتس يعلق في هذا السياق على حادثة اقتحام مجموعة من الجمهور والجنود الملثمين المنتمين إلى اليمين الديني المتطرف، بقيادة نواب في الكنيست، قاعدة "سدي تيمان" العسكرية في النقب جنوب إسرائيل، وذلك احتجاجاً على اعتقال الشرطة العسكرية تسعة جنود بتهمة الاعتداء الجنسي على أسير فلسطيني، ومحاولة الغاضبين إطلاق سراحهم بالقوة.

عندما تضع الحرب أوزارها، ستظهر من جديد آثار خطة نتنياهو الرامية إلى تهميش دور الجيش في الحياة السياسية، حتى لو أخلَّ ذلك بالركيزة الأساسية للتوازن الدقيق في مجتمع يوصف بأنه "جيش له دولة". لكن الجيش، على الأرجح، لن يقف مكتوف الأيدي أمام محاولات تقليص دوره، وسيبذل قصارى جهده للحفاظ على مكانته وموقعه المرموق، وستكون هناك مواجهة حامية الوطيس بعد تسلل المتدينين المتشددين إلى المناصب القيادية في الجيش، وهو ما أدى إلى ظهور مطالبات بعدم جمع الضباط المتدينين في الوحدات العسكرية نفسها.

تجدر الإشارة إلى أنه قد نشب في الماضي صراع مسلح بين الجيش، الذي كانت تهيمن عليه عصابات "الهاغاناه" خلال حكم دافيد بن غوريون، وبين قيادات الميليشيات المسلحة عندما قصف الجيش سفينة كانت تحمل أسلحة إلى عصابة "الأرجون"، مما أدى إلى مقتل واعتقال العديد من عناصرها. ليس هناك ما يمنع تكرار هذا السيناريو بين وحدات الجيش بعد انتهاء الحرب، وإذا حدث ذلك، في ظل الدور المحوري الذي يلعبه الجيش في المجتمع الإسرائيلي، فقد يفتح الباب على مصراعيه أمام حرب أهلية شاملة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة